الأثنين، 14 يوليو 2025
دبي، الإمارات العربية المتحدة:
لم تكتفِ المدينة الطموحة بمتابعة التحولات من بعيد، بل بادرت إلى صناعتها، مدفوعةً برؤية استثنائية لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، تهدف إلى ترسيخ موقع الإمارة مركزاً إقليمياً وعالمياً للمستقبل الرقمي.
وسط هذا التوجّه، برزت فكرة إنشاء مركز بيانات عالمي، يوفر الأساس التقني لتشغيل خدمات الإنترنت، واستضافة المواقع الإلكترونية، وتمكين التحوّل الرقمي للشركات في المنطقة.
في ذلك الوقت، كانت مراكز البيانات مفهوماً متقدماً في الأسواق الغربية، تتمركز في عواصم التكنولوجيا، مثل وادي السيليكون بالولايات المتحدة ولندن وطوكيو، حيث بدأت الشركات تدرك أهمية فصل أنظمتها التقنية عن مقارها التشغيلية، والاعتماد على مراكز احترافية آمنة، لتخزين بياناتها وتشغيل خدماتها.
من هنا، جاءت مبادرة دبي جريئة وغير مسبوقة، لتؤسس أول مركز بيانات متطور في دولة الإمارات والمنطقة، وتبدأ رحلة ريادة رقمية جديدة من قلب الصحراء.
وُصف المركز آنذاك بأنه الأول من نوعه في الشرق الأوسط، إذ صُمم تحت إشراف خبراء IBM، لتقديم استضافة متطورة، تتيح للشركات نقل أنظمتها التقنية الحساسة إلى بيئة موثوقة وآمنة، عوضاً عن الخوادم الداخلية المحدودة.
كانت هذه الخطوة غير مسبوقة في المنطقة في ذلك الوقت.
استهدفت دبي تحقيق إيرادات تقارب 50 مليون دولار خلال ثلاث سنوات من تشغيل المركز، عبر خدمات الاستضافة الموجهة للشركات المحلية والإقليمية. وعكست هذه الشراكة جرأة دبي في اتخاذ قرارات استراتيجية.
فبدلاً من الانتظار، حتى تلحق المنطقة بالثورة الرقمية، قفزت دبي مباشرة إلى مقدم الركب.
فقد وفر المركز البنية التحتية لشركات التكنولوجيا والإعلام والاتصالات، التي بدأت تتدفق إلى دبي مطلع الألفية الجديدة.
خلال سنوات قليلة، أصبحت المدينة حاضنةً لأكثر من 1600 شركة تقنية، بينها عمالقة مثل مايكروسوفت وأوراكل وIBM.
ومع توافر خدمات استضافة البيانات محلياً، لم تعد الشركات الإقليمية مضطرة للاعتماد على خوادم بعيدة في أوروبا أو أمريكا لتشغيل مواقعها وخدماتها الإلكترونية، بل أمكنها القيام بذلك من دبي بموثوقية عالمية.
وساعد ذلك في تحويلها إلى البوابة الرقمية الأولى في المنطقة، وفي ترسيخ مكانتها عنواناً موثوقاً لعمالقة التقنية، وأحد أبرز وجهات الاستثمار الرقمي.
كما توسّع دورها من مركز استضافة بيانات إلى منصة متكاملة لحلول الذكاء الاصطناعي والبحث والتطوير.
أتاحت هذه النقلة لدبي، أفضلية تنافسية كبيرة، ورسّخت مكانتها مركزاً رقمياً رائداً في الشرق الأوسط.
فخلال 15 عاماً من تأسيسها (1999 - 2014)، أضافت مدينة دبي للإنترنت نحو 100 مليار درهم «قرابة 27 مليار دولار»، إلى اقتصاد دبي.
وبحلول 2024، أصبحت تسهم بحوالي 65 % من الناتج التقني للإمارة.
كما تعكس هذه الأرقام عائد الاستثمار المبكر في البنية التحتية الرقمية، إذ نجحت دبي للإنترنت، في جذب آلاف الشركات، ووفرت ما يزيد على 125 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، لتصبح رافعة أساسية لتنويع الاقتصاد.
فبفضل بنيتها التحتية المتقدمة، ومنها مركز البيانات المشترك مع IBM، استقطبت دبي مواهب رقمية، وشركات ناشئة من مختلف الدول.
تلك الخطوة الأولى، المتمثلة في إنشاء مركز البيانات، أرست أساساً صلباً، انطلقت منه كل المبادرات اللاحقة.
فهو الذي سمح للإمارات بالانتقال المبكر إلى عصر الخدمات الرقمية، وجعل دبي وجهةً جاذبة لاستثمارات تقنية ضخمة، تدفقت خلال السنوات التالية.
وقد لخص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، هذه الحقيقة بقوله: «إن رؤيتنا للمستقبل واضحة، ومتطلبات التميز فيه حُصرت بدقة... والعمل جارٍ على تحقيقها بسواعد أبناء الإمارات وعقولهم وابتكاراتهم».
وهكذا أصبحت البنية التحتية الرقمية ركناً أساسياً في تنمية الإمارات لعقود قادمة.
وظهرت شركات استضافة عملاقة، وملأت شركات الاتصالات مباني كاملة بخوادم لإسكان بيانات الشركات، وتركز الكثير منها في شمالي فرجينيا بالولايات المتحدة، بمنطقة أُطلق عليها «زقاق مراكز البيانات».
بحلول عام 2000، كانت الولايات المتحدة تستحوذ على نحو نصف القدرة العالمية لمراكز البيانات، وتلتها أوروبا، عبر مجمعات تقنية رائدة في مدن مثل لندن.
وفي آسيا، بدأت دول كاليابان وسنغافورة، مطلع الألفية، الاستثمار في البنية الرقمية للحاق بالركب، كما شرعت الصين والهند خلال العقد نفسه، في بناء مراكز كبرى، لمواكبة النمو الهائل في أعداد مستخدمي الإنترنت لديهما.
ورغم تواضع الاستثمار، مقارنة بالغرب (استهدفت دبي مثلاً 50 مليون دولار خلال 3 سنوات، فيما أنفقت شركات أمريكية مئات الملايين)، إلا أن الرؤية كانت واحدة: المستقبل للاقتصاد الرقمي، ومن يمتلك البنية التحتية سيحصد الريادة.
الفارق أن الإمارات تبنّت هذه الرؤية مبكراً، في محيط لم يدرك أهميتها بعد، فتحولت إلى النموذج الملهم إقليمياً.
وبالفعل، ما إن أدركت دول الجوار أهمية مراكز البيانات، حتى بدأت السعودية وقطر تنفيذ مشاريعها لتقليص الفجوة مع الريادة الإماراتية. اليوم، بعد نحو عقدين، بات السباق العالمي على مراكز البيانات محموماً.
فالتنافس على بناء منشآت أكبر وأكفأ، يتسارع، مع انتشار تقنيات كالذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية.
والمفارقة أن الشرق الأوسط، الذي تأخر في بداياته، أصبح الآن أحد أسرع الأسواق نمواً في هذا القطاع.
وتُقدَّر قيمة صناعة مراكز البيانات عالمياً بحوالي 242.7 مليار دولار عام 2025، مع توقع تضاعفها إلى أكثر من 584 ملياراً بحلول 2032. هذا يعني ضخ مئات المليارات سنوياً حول العالم، لبناء وتشغيل «مصانع» الاقتصاد الرقمي الجديدة.
وفي هذه الحمى الرقمية، لم تعد الاقتصادات الناشئة تقف على الهامش، بل تتسابق دول مثل الهند والبرازيل وكينيا والإمارات، لجذب مشاريع مراكز البيانات، كونها عصب الاقتصاد المستقبلي.
وكما تتنافس الدول على اجتذاب المصانع التقليدية عبر الحوافز، نراها اليوم تقدّم إعفاءات ضريبية وتسهيلات إجرائية وتخصص أراضي لاستقطاب مراكز البيانات. إنها حقاً حمى ذهب رقمية، لا يريد أحد تفويتها.
كما قفز الإنفاق العالمي على تجهيزات مراكز البيانات إلى نحو 200 مليار دولار سنوياً، في عقد 2020، مدفوعاً بالطلب المستمر من كبار شركات التكنولوجيا، لتوسيع السعات السحابية.
وفي منطقة الخليج، بلغ الإنفاق على خدمات وتقنيات مراكز البيانات، قرابة 1.5 مليار درهم عام 2022، في الإمارات والسعودية مجتمعتين، بمعدل نمو سنوي يقارب 30 %.
هذا التحول غيّر مشهد سوق العمل أيضاً، فبعدما كانت أغلب العمالة تتركز في تشغيل المرافق التقليدية والإنشاءات، ارتفع الطلب اليوم على مهندسي الشبكات والحوسبة السحابية، ومديري مراكز البيانات، وغيرهم من التخصصات الرقمية.
والمدن التي تحتضن مراكز بيانات ضخمة، تجني مكاسب اقتصادية، عبر خلق وظائف نوعية جديدة.
فوفرة البنية السحابية القوية، تعني ازدهار الخدمات الذكية المقدمة للمجتمع «من التعليم والصحة، إلى المدفوعات والترفيه عبر الإنترنت».
ونرى ذلك جلياً في الإمارات، حيث مكّن انتشار مراكز البيانات المحلية من تقديم الخدمات الحكومية الرقمية للسكان بسرعة وكفاءة غير مسبوقة.
وهذا التقارب الرقمي عزز الشمولية، فقد ارتفعت نسبة مستخدمي الإنترنت في الإمارات من حوالي 24 % عام 2000، إلى قرابة 98 % اليوم.
وبالتوازي، تغيرت الثقافة الاقتصادية، إذ باتت البيانات مورداً استراتيجياً، تتنافس عليه المؤسسات.
فالشركات الأعلى قيمة في العالم اليوم، هي في جوهرها شركات بيانات، تشغّل مراكز عملاقة لفهم سلوك العملاء، وتقديم الخدمات لهم آنياً.
وعلى مستوى الدول، غدا وجود مراكز بيانات وطنية، أشبه بامتلاك احتياطيات نقدية، أو موارد طبيعية، من حيث أهميته الاستراتيجية.
من غرفة خوادم صغيرة في تسعينيات القرن الماضي، إلى مدن خوادم عملاقة في قلب المدن الإماراتية اليوم، قطعت الدولة شوطاً مذهلاً في مسيرة التحول الرقمي.
بدأت الحكاية بقرار جريء، من قيادة آمنت بأن المستقبل يُصنع ولا يُنتظر.
فعندما وقف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، مع مسؤولي IBM عام 2001، داخل غرفة تعجّ بالخوادم، لم يكن ذلك مجرد تدشين مبنى تقني، بل تأسيساً لمستقبل تتصدر فيه دولة عربية مشهد الثورة الرقمية.
وخلال عقدين، أصبحت الإمارات محطة رئيسة على خارطة مراكز البيانات العالمية، تنافس العواصم التقنية التقليدية بالأرقام والقدرات.