السبت 22 نوفمبر 2025 - 12:26:22 ص

بين شبح التيوليب ودوت كوم.. الذكاء الاصطناعي ثورة اقتصادية أم فقاعة أوشكت على الانفجار؟

بين شبح التيوليب ودوت كوم.. الذكاء الاصطناعي ثورة اقتصادية أم فقاعة أوشكت على الانفجار؟

دبي، الإمارات العربية المتحدة:

منحنى الشغف أحد الأمور التي اصطلح عليها في عالم التكنولوجيا، واقتصادياً يعني وصول الطلب على السلعة لقمته، تلك ‏القمة التي يتبعها ثبات ثم بداية انهيار، حدث ذلك مع فقاعة دوت كوم الاقتصادية في التسعينيات، والتي تبعها إفلاس شركات ‏بعدما انهارت أسهمها في البورصة وتوالت الأحداث التي أثرت على الاقتصاد العالمي، وفي ظل ارتفاع أسهم ‏تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بات شبح فقاعة دوت كوم يؤرق كل العاملين في المجال.. فهل الذكاء الاصطناعي ‏فقاعة؟ وكيف يرى الاقتصاديون الأمر؟ وما تبعات سقوط الذكاء الاصطناعي من أعلى منحنى الشغف؟

منحنى الشغف (‏Hype Curve‏) مصطلح يستخدمه المختصون في البورصة للاستدلال على مدى النجاح أو الفشل في ‏المضاربات، في الأمور الرائجة، حيث يرسمون خطاً بيانياً لصعود السهم أو المنتج، ويبدأ الاستنتاج باحتمالية هبوط السهم ‏عندما يصل السوق إلى حد التشبع أو يبدأ شغف المستثمرين في الاستمرار بعمليات الشراء، في التراجع، فيظهر المنحنى ثابتاً ‏قليلاً، وذلك الثبات يساعدهم على التنبؤ بقرب الهبوط، الذي قد يكون تدريجياً أو مفاجئاً ويعتمد ذلك على سرعة الصعود.‏


وفي حال كان الصعود مفاجئاً وسريعاً، ذلك ما يطلق عليه الفقاعة، تشبيهاً ببالون انتفخ سريعاً وقارب على الانفجار، حالة من ‏الارتفاع السريع والمبالغ فيه في قيمة الأصول نتيجة المضاربة المفرطة والسرديات المغرية، بحيث تنفصل الأسعار بشكل ‏كبير عن القيم الاقتصادية الحقيقية، الأمر الذي ينتهي بانفجار مفاجئ يبدد جزءاً كبيراً من الثروة.‏


صعود صاروخي

ونتيجة للصعود الصاروخي لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الأعوام الثلاثة الماضية جاءت تسمية ‏«فقاعة الذكاء ‏الاصطناعي»‏ للتعبير عن القلق من أن الصعود الصاروخي والحماس الجامح والاستثمارات الضخمة في شركات وتقنيات ‏الذكاء الاصطناعي قد تكون بلغت مستويات غير مطمئنة بدأ البعض في مقارنتها بأزمة تاريخية، وهي حمى الاستثمار في ‏شركات الإنترنت (فقاعة الدوت كوم) قبل ما يزيد على 25 عاماً، بل وحتى بحمى زهرة التوليب قبل قرون.‏


وعندما يدافع البعض عن ثورية تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وصعوبة تحولها لفقاعة، فالأمر غير مرتبط بثورية ‏التكنولوجيا، فليس أكثر ثورية من ابتكار الإنترنت، ومع ذلك تحولت في التسعينيات إلى فقاعة انفجرت وأطاحت بعمالقة في ‏الأسواق العالمية، حيث بين 1995 و2000 خلال الصعود السريع لشركات الإنترنت في الولايات المتحدة، كان التفاؤل بأن ‏الإنترنت سيغير العالم يدفع المستثمرين لضخ أموال ضخمة في أي شركة تحمل الامتداد‏ «com.» حتى لو لم يكن لديها ‏نموذج عمل واضح أو أرباح حقيقية، وارتفعت أسعار أسهم شركات التكنولوجيا إلى مستويات غير واقعية، ثم انفجرت الفقاعة ‏عام 2000 عندما أدرك المستثمرون أن هذه الشركات لا تحقق عوائد حقيقية، فانهارت الأسواق وتبخرت مليارات الدولارات ‏من القيمة السوقية، وكان نتيجة ذلك تلاشي وإفلاس العديد من الشركات الكبيرة والناشئة، ونجت من ذلك الطوفان شركات ‏قليلة وراسخة مثل أمازون.‏


ومع الفارق تعد فقاعة التيوليب أول فقاعة اقتصادية كبرى في التاريخ، وحدثت في هولندا في حوالي عام ‏1637، حيث أصبح ‏شراء شتلات وبذور زهرة التوليب النادرة موضة بين الأثرياء، فارتفعت الأسعار بشكل جنوني لدرجة أن بعض الشتلات ‏بيعت بثمن يعادل منزلاً فاخراً، واستمرت المضاربة بضعة أشهر فقط قبل أن تنهار الأسعار فجأة عندما توقف المشترون عن ‏الدفع، فتسببت بخسائر كبيرة لمن اشترى في القمة، ورغم الضجة التاريخية، تشير الدراسات إلى أن تأثيرها الاقتصادي الكلي ‏على الاقتصاد الهولندي كان محدوداً، لكنها بقيت رمزاً كلاسيكياً لـ جنون المضاربة.‏


فترى هل الذكاء الاصطناعي فقاعة مثل دوت كوم والتيوليب؟ ‏

تختلف الآراء حتى داخل وادي السيليكون نفسه ومن الخبراء الاقتصاديين حول الذكاء الاصطناعي ومنحناه الاقتصادي في ‏المضاربة والاستثمار، وينقسم الخبراء إلى فريقين أحدهما حذر ويستدعي التاريخ كدليل استرشادي للمستقبل، والبعض الآخر ‏يتخذ التفاؤل مبدأً، ولا يرى في الذكاء الاصطناعي فقاعة، ويستبعدون انهيار منحنى الشغف.‏


وحذر ديفيد سولومون، الرئيس التنفيذي لمصرف جولدمان ساكس، من أن كثيراً من رؤوس الأموال الموجهة إلى مشاريع ‏الذكاء الاصطناعي قد لا تحقق عوائد مستقبلية، مشيراً إلى احتمال تبخر جزء كبير من هذه الاستثمارات.


كما وصف جيف بيزوس، مؤسس أمازون المناخ الاستثماري الحالي بأنه «فقاعة صناعية»، لافتاً إلى وجود إفراط واضح في ‏تقدير قدرات التقنيات الحديثة.


وترك جيف بيزوس الباب موارباً قائلاً: إن بعض الفقاعات قد تكون مفيدة على المدى الطويل، مستشهداً بفقاعة الدوت كوم ‏التي، رغم خسائرها، خلفت بنية تحتية غيرت وجه العالم، معتبراً أن الاستثمار الحالي في مراكز البيانات وفي الأبحاث ‏المتقدمة للذكاء الاصطناعي لن يذهب سدى حتى لو حدث تصحيح في الأسواق.


وتعززت هذه الرؤية بآراء محللين ماليين لاحظوا أن ارتفاع أداء شركة إنفيديا، بعد إعلانها عن أرباح قياسية في نهاية عام ‏ألفين وخمسة وعشرين، ما يعكس نمواً حقيقياً وليس مجرد ضجيج، إذ رأوا أن الطلب الكبير على شرائحها يبرر ارتفاع ‏قيمتها.‏


أما سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لإحدى أبرز شركات تطوير الذكاء الاصطناعي، فقد ذهب إلى تحذير مباشر من أن مبالغة ‏المستثمرين في ضخ الأموال قد تؤدي إلى خسائر مالية كبيرة، مؤكداً أن الحماس المفرط سيترك ضحاياه في هذه المرحلة.


وانضم إلى هذه التحذيرات المستثمر المعروف راي داليو، مؤسس صندوق بريدجووتر، الذي شبه الوضع الحالي بما سبق ‏انهيار الأسواق في عام ألف وتسعمائة وتسعة وعشرين، وبما سبق فقاعة عام ألفين، مؤكداً أن مؤشرات السوق الحالية تقطع ‏شوطاً كبيراً نحو فقاعة مكتملة الملامح، وأوضح داليو أن أدواته التحليلية تشير إلى أن الذكاء الاصطناعي وصل إلى ثمانين ‏في المئة من المسار الذي قد يقود إلى فقاعة شبيهة بما حدث في الدوت كوم.


كما حذر الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل بول كروغمان من أن طفرة الذكاء الاصطناعي قد تنتهي بصورة غير سعيدة ‏مشابهة لانفجار فقاعة الإنترنت، مع احتمال الحاجة إلى تدخلات لإنقاذ القطاع التقني إذا انهارت المشاريع فجأة.

الطرف الآخر

على الجانب المقابل، يرى فريق من الخبراء أن وصف الطفرة الحالية بأنها «فقاعة» ينطوي على مبالغة، من أبرز هؤلاء ‏الاقتصادي الفرنسي لودوفيك سوبـران كبير الخبراء الاقتصاديين في شركة أليانز، الذي أكد أن ما يشهده القطاع أقرب إلى ‏‏«طفرة مدعومة بالأساسيات» وليس فقاعة، موضحاً أن الشركات الرائدة في الذكاء الاصطناعي تحقق أرباحاً فعلية، ولديها ‏توقعات واقعية بنمو الإنتاجية.


وأشار سوبـران أيضاً إلى أن التفاؤل الحالي يتركز في شركات قليلة ذات قدرة مالية قوية، مثل مايكروسوفت وجوجل ‏وإنفيديا، وهي شركات تستطيع تحمل مخاطر التوسع، ما يقلل احتمال حدوث انهيار شامل.


وأكد محللون من وول ستريت أنه «من الصعب القول إن هناك فقاعة» في ظل إنفاق الشركات الكبرى على توسيع قدراتها في ‏الذكاء الاصطناعي، مع الإقرار بأن العائد النهائي لهذه الاستثمارات سيحتاج وقتاً ليظهر.


واتخذ سوندار بيتشاي، الرئيس التنفيذي لجوجل، موقفاً متوازناً، فقد وصف الاستثمار في الذكاء الاصطناعي بأنه «لحظة ‏استثنائية»، لكنه أقر بوجود «عناصر من اللا عقلانية» في السوق، وعند سؤاله عن سيناريو انفجار الفقاعة، أكد أن أي انهيار ‏سيطال الجميع بلا استثناء، بما في ذلك شركته، رغم ثقته بقدرتها على امتصاص الصدمات.‏


كما أشار بيتشاي إلى تحديات كبيرة مرتبطة بالطاقة، موضحاً أن توسيع مشاريع الذكاء الاصطناعي قد يفرض تأجيلاً لبعض ‏أهداف الشركة البيئية.


أما جنسن هوانغ، الرئيس التنفيذي لإنفيديا، فقد تبنى نبرة حاسمة في نفي فكرة الفقاعة، وأكد أن الطلب على تقنيات الذكاء ‏الاصطناعي يتجاوز قدرة السوق على تلبيته، كاشفاً عن وجود طلبات بمئات المليارات تنتظر التوريد، وأوضح أن الذكاء ‏الاصطناعي أصبح حاجة أساسية لكل صناعة، من الحوسبة السحابية إلى الروبوتات، ما يجعل النمو الحالي مدعوماً ‏بأساسيات قوية. ‏


شبح الفقاعة

ويبدو شبح فقاعة دوت كوم مسيطراً على حالة الترقب في الأسواق العالمية حول الذكاء الاصطناعي، إلا أنه تظهر العديد من ‏الاختلافات الجوهرية بين فورة الدوت كوم أواخر التسعينيات وبين مشهد الذكاء الاصطناعي اليوم، أحد أبرز الفوارق هو ‏نوعية الشركات والاستثمارات المعنية، ففقاعة الدوت كوم تمتعت بانتشار أعداد هائلة من الشركات الناشئة ذات النماذج ‏التجارية غير الواضحة (كثير منها لم يكن يحقق أرباحاً فعلية حينها)، وكانت التقييمات تعتمد على مؤشرات غير تقليدية مثل ‏عدد الزوار أو «الزيارات» بدلاً من الإيرادات، أما طفرة الذكاء الاصطناعي الحالية، فتركزت إلى حد كبير في شركات ‏تكنولوجيا عملاقة راسخة أو شركات بعتاد ‏hardware‏ أساسي مثل رقائق ‏NVIDIA‏ التي تقوم بضخ استثمارات هائلة في ‏البنية التحتية الملموسة، إضافة إلى نموذج المدفوعات الحالي، والذي لا يتيح الذكاء الاصطناعي بكل أبعاده بشكل مجاني، ‏وبالتالي فالعائد المادي كبير من الاشتراكات، التي تعد عائداً مادياً يعوض الخسارة ويوقف الذكاء الاصطناعي على أرض ‏صلبة إلى حد بعيد، ففي حين تميزت حقبة الدوت كوم بارتفاعات خيالية دون مردود متوقع أو نظام مدفوعات يعوض ‏مصاريف البنية التحتية.‏


في حين تتميز الحقبة الحالية بإنفاق حذر على البنية التحتية لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي، من مراكز البيانات العملاقة ‏إلى آلات طباعة التصاميم المجهرية على أشباه الموصلات، وهذا التحول يعني أن الرهان الحالي لا يقتصر على تقييمات ‏سوق الأسهم، بل يشمل بناء أصول حقيقية قد تبقى ذات قيمة حتى لو تراجع الزخم.‏


جانب من الاختلاف

جانب آخر من الاختلاف هو أن الارتفاعات الحالية مدعومة جزئياً بمؤشرات مالية أقل انفصالاً عن الواقع مما كان عليه ‏الحال قبيل انفجار فقاعة 2000، حيث يشير محللون اقتصاديون إلى أن معادل الربحية المستقبلي، رغم ارتفاعه، لا يزال دون ‏المستويات المتطرفة التي سجلت عند ذروة فقاعة الدوت كوم، فالأسواق اليوم تراهن على نمو فعلي في الأرباح المستقبلية من ‏تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وليس مجرد مضاربات على أمل تحقيق عوائد في مستقبل بعيد. ‏


ومثال على ذلك شركة إنفيديا إحدى أبرز المستفيدين من طفرة الذكاء الاصطناعي نظراً لهيمنتها على سوق معالجات ‏التدريب للذكاء الاصطناعي، حققت إيرادات وأرباحاً قياسية أخيراً، ما طمأن بعض المستثمرين بأن قفزة قيمتها تعكس طلباً ‏حقيقياً وليس مجرد فقاعة وهمية، ووفقاً لموقع «كيو زد» فقد علق محللون بأنه ‏مهما قيل عن مبالغة الحماس للذكاء ‏الاصطناعي، فإن النمو نفسه ليس وهمياً؛ فالأرقام القياسية في مبيعات رقائق الذكاء الاصطناعي تؤكد وجود عائدات فعلية ‏وراء التقييمات المرتفعة، كما أشار آخرون إلى أنه من الصعب الجزم بوجود فقاعة في الوقت الحالي طالما أن الطلب ‏والاستثمارات حقيقية، حتى إن كان العائد النهائي على هذه الاستثمارات غير معلوم، وهذه المعطيات تختلف عما حدث عام ‏‏2000 عندما كانت كثير من شركات الإنترنت لا تمتلك أصولاً أو إيرادات تبرر أسعار أسهمها وقتها.‏


تشابه أساسي

ويبقى التشابه الأساسي والدعوة للحذر قائماً وإلصاق تهمة الـ «فقاعة» للذكاء الاصطناعي لا يزال له أساس، وكذلك التشبيه ‏بفقاعة دوت كوم، حيث خليط التطلعات الثورية والتقييمات غير المسبوقة نفسه، وكلاهما يمثل حكاية عبر عنها الاقتصادي ‏الأمريكي البارز ألان جرينسبان، والذي شغل منصب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لمدة 18 عاماً، من ‏1987 إلى 2006، عندما قال إن الفقاعات تحدث في حالات «وفرة غير عقلانية» أي حالة يتجاوز فيها التفاؤل حدود المنطق السليم. ‏وكما خلفت فقاعة الإنترنت وراءها شبكة الإنترنت التي نستخدمها اليوم بكثافة أكثر من أي وقت مضى، فإن طفرة الذكاء ‏الاصطناعي الحالية، حتى لو انكمشت جزئياً في مرحلة ما – قد تخلف وراءها تقنيات ومنصات ذكاء اصطناعي تغير شكل ‏الاقتصاد لعقود مقبلة. 


ورغم تباين الآراء بين تحذيرات من اقتراب ذروة فقاعة محتملة، ورؤى تؤكد أن ما يحدث هو طفرة حقيقية تقود تحولاً ‏اقتصادياً واسعاً، تبقى الإجابة النهائية رهن السنوات المقبلة التي ستكشف ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيمضي نحو ترسيخ ‏مكانته كجوهر الاقتصاد العالمي، أم يشهد تصحيحاً يثبت أن جزءاً من هذا الحماس كان مبالغاً فيه.‏